الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **
بسم الله الرحمن الرحيم توكلت على الله وحده قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين وصلواته على محمد سيد المرسلين وعلى آله أجمعين. هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة وكل ما به يكون النظم دفعة وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد ويرى بها مشئماً قد ضم إلى معرق ومغرباً قد أخذ بيد مشرق وقد دخلت بأخرة في كلام من أصغى إليه وتدبره تدبر ذي دين وفتوة دعاه إلى النظر في الكتاب الذي وضعناه وبعثه على طلب ما دوناه والله تعالى الموفق للصواب والملهم لما يؤدي إلى الرشاد بمنه وفضله. قال عبد القاهر رضي الله تعالى عنه: معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض. والكلم ثلاث: اسم وفعل وحرف وللتعليق فيما بينها طرق معلومة وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: وتعلق اسم بفعل. وتعلق حرف بهما.
فالاسم يتعلق بالاسم بأن يكون خبراً عنه أو حالاً منه أو تابعاً له صفة أو تأكيداً أو عطف بياني أو بدلاً أو عطفاً بحرف أو بأن يكون الأول مضافاً إلى الثاني أو بأن يكون الأول يعمل في الثاني عمل الفعل ويكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول وذلك في اسم الفاعل كقولنا: زيد ضارب أبوه عمراً وكقوله تعالى: " ومعنى تمام الاسم أن يكون فيه ما يمنع من الإضافة وذلك بأن يكون فيه نون تثنية كقولنا: قفيزان براً أو نون جمع كقولنا: عشرون درهماً. أو تنوين كقولنا: راقود خلا وما في السماء قدر راحة سحاباً أو تقدير تنوين كقولنا: خمسة عشر رجلاً أو يكون قد أضيف إلى شيء فلا يمكن إضافته مرة أخرى كقولنا: لي ملؤه عسلاً وكقوله تعالى: "
وأما تعلق الاسم بالفعل فبأن يكون فاعلاً له أو مفعولاً فيكون مصدراً قد انتصب به كقولك: ضربت ضرباً ويقال له: المفعول المطلق. أو مفعولاً له كقولك: ضرب زيداً. أو ظرفاً مفعولاً فيه زماناً أو مكاناً كقولك: خرجت يوم الجمعة ووقفت أمامك مفعولاً معه كقولنا: جاء البرد والطيالسة. ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها. أو مفعولاً له كقولنا: جئتك إكراماً لك وفعلت ذلك إرادة الخير بك وكقوله تعالى: " أو بأن يكون منزلاً من الفعل منزلة المفعول وذلك في خبر كان وأخواتها والحال والتمييز المنتصب عن تمام الكلام مثل: طاب زيد نفساً وحسن وجهاً وكرم أصلاً. ومثله الاسم المنتصب على الاستثناء كقولك: جاءني القوم إلا زيداً لأنه من قبيل ما ينتصب عن تمام الكلام.
أحدها أن يتوسط بين الفعل والاسم فيكون ذلك في حروف الجر التي من شأنها أن تعدي الأفعال إلى ما لا تتعدى إليه بأنفسها من الأسماء مثل أنك تقول: مررت فلا يصل إلى نحو زيد وعمرو. فإذا قلت: مررت بزيد أو على زيد وجدته قد وصل بالباء أو على. وكذلك سبيل الواو الكائنة بمعنى مع في قولنا: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها بمنزلة حرف الجر في التوسط بين الفعل والاسم وإيصاله إليه. إلا أن الفرق أنها لا تعمل بنفسها شيئاً لكنها تعين الفعل على عمله النصب. وكذلك حكم إلا في الاستثناء فإنها عندهم بمنزلة هذه الواو الكائنة بمعنى مع في التوسط وعمل النصب في المستثنى للفعل ولكن بوساطتها وعون منها. تعلق الحرف بما يتعلق به العطف والضرب الثاني من تعلق الحرف بما يتعلق به العطف وهو أن يدخل الثاني في عمل العامل في الأول كقولنا: جاءني زيد وعمرو ورأيت زيداً وعمراً ومررت بزيد وعمرو.
والضرب الثالث: تعلقه بمجموع الجملة كتعلق حرف النفي والاستفهام والشرط الجزاء بما يدخل عليه. وذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناولة بالتقييد بعد أن يسند إلى شيء. معنى ذلك أنك إذا قلت: ما خرج زيد وما زيد خارج لم يكن لنفي الواقغ بها متناولاً الخروج على الإطلاق بل الخروج واقعاً من زيد ومسنداً إليه. لا يغرنك قولنا في نحو: لا رجل في الدار أنها لنفي الجنس فإن المعنى في ذلك أنها قي الكينونة في الدار عن الجنس ولو كان يتصور تعلق النفي بالاسم المفرد لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها لا إله لنا أو في الوجود إلا الله فضلاً من القول وتقديراً لما لا يحتاج إليه وكذلك الحكم أبداً. فإذا قلت: هل خرج زيد. لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقاً ولكن عنه واقعاً من زيد. وإذا قلت: إن يأتني زيد أكرمه لم تكن جعلت الإتيان شرطاً بل الإتيان من زيد. وكذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان بل الإكرام واقعاً منك. كيف وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال. وهو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت وإكرام من غير مكرم ثم يكون هذا شرطاً وذلك جزاء ومختصر كل الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد وأنه لا بد من مسند ومسند إليه كذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة كإن وأخواتها. ألا ترى أنك إذا قلت: كأن يقتضي مشبهاً ومشبهاً به كقولك: كأن زيداً الأسد. وكذلك إذا قلت: لو ولولا وجدتهما يقتضيان جملتين تكون الثانية جواباً للأولى. وجملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف وفعل أصلاً ولا من حرف واسم إلا في النداء نحو: يا عبد الله. وذلك أيضاً إذا حقق الأمر كان كلاماً بتقدير الفعل المضمر الذي هو أعني وأريد وأدعو و يا دليل على قيام معناه في النفس. فهذه هي الطرق والوجوه في تعلق الكلم بعضها ببعض. وهي كما تراها معاني النحو وأحكامه. وكذلك السبيل في كل شيء كان له مدخل في صحة تعلق الكلم بعضها ببعض لا ترى شيئاً من ذلك يعدو أن يكون حكماً من أحكام النحو ومعنى من معانيه. ثم إنا نرى هذه كلها موجودة في كلام العرب ونرى العلم بها مشتركاً بينهم. وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكملوا بمعرفتها وكانت حقائق لا تتبدل ولا تختلف بها الحال إذ لا يكون للاسم بكونه خبراً لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل والعجيب من الوصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر وقيد الخواطر والفكر وحتى خرست الشقاشق وعدم نطق الناطق وحتى لم يجر لسان ولم يبن بيان ولم يساعد إمكان ولم ينقدح لأحد منهم زند لم يمض له حد وحتى أسال الوادي عليهم عجزاً وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله ونرده عن ضلاله وأن نطب لدائه ونزيل الفساد عن رائه فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل في دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه ويستقصي التأمل لما أودعناه. فإن علم أنه الطريق إلى البيان والكشف عن الحجة والبرهان تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقاً غيره أومى لنا إليه ودلنا عليه وهيهات ذلك وهنه أبيات في مثل ذلك من البسيط: إني أقول مقالاً لست أخفيه ولست أرهب خصماً إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة في النظم إلا بما أصبحت أبديه فما لنظم كلام أنت ناظمه معنى سوى حكم إعراب تزجيه اسم يرى وهو أصل للكلام فما يتم من دونه قصد لمنشيه وآخر هو يعطيك الزيادة في ما أنت تثبته أوأنت تنفيه تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ تلقى له خبراً من بعد تثنيه هذان أصلان لا تأتيك فائدة من منطق لم يكونا من مبانيه وما يزيدك من بعد التمام فما سلطت فعلاً عليه في تعديه هذي قوانين يلفى من تتبعها مايشبه البحر فيضاً من نواحيه فلست تأتي إلى باب لتعلمه إلا انصرفت بعجزعن تقصيه هذا كذاك وإن كان الذين ترى يرون أن المدى دان لباغيه ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم بما يجيب الفتى خصماً يماريه يقول: من أين أن لا نظم يشبهه وليس من منطق في ذاك يحكيه وقد علمنا بأن النظم ليس سوى حكم من النحو نمضي في توخيه لو نقب الأرض باغ غير ذاك له معنى وصغد يعلو في ترقيه ما عاد إلا بخسر في تطلبه ولا رأى غير غي في تبغيه ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في أحكامه ونروي في معانيه كانت حقائق يلفى العلم مشتركاً بها وكلا تراه نافذاً فيه قولوا وإلا فأصغوا للبيان تروا كالصبح منبلجاً في عين رائيه الحمد لله وحده وصلواته على رسوله محمد وآله.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين نحمده على عظيم نعمائه وجميل بلائه ونستكفيه نوائب الزمان ونوازل الحدثان ونرغب إليه في التوفيق والعصمة ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله يقيناً يملأ الصدور ويعمر القلب ويستولي على النفس حتى يكفها إذا نزغت ويردها إذا تطلعت. وثقة بأنه عز وجل الوزر والكالىء والراعي والحافظ وأن الخير والشر بيده. وأن النعم كلها من عنده وأن لا سلطان لأحد مع سلطانه نوجه رغباتنا إليه ونخلص نياتنا في التوكل عليه وأن يجعلنا ممن همه الصدق وبغيته الحق وغرضه الصواب وما تصححه العقول وتقبله الألباب ونعوذ به من أن ندعي العلم بشيء لا نعلمه وأن نسدي قولاً لا نلحمه وأن نكون ممن يغره الكاذب من الثناء وينخدع للمتجوز في الإطراء وأن يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أن يجادل بالباطل ويموه على السامغ ولا يبالي إذا راج عنه القول أن يكون قد خلط فيه ولم يسدد في معانيه. ونستأنف الرغبة إليه عز وجل في الصلاة على خير خلقه والمصطفى من بريته محمد سيد المرسلين وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين وعلى آله الأخيار من بعدهم أجمعين. وبعد فإنا إذا تصفحنا الفضائل لنعرف منازلها في الشرف ونتبين مواقعها من العظم ونعلم أي أحق منها بالتقديم وأسبق في استيجاب التعظيم وجدنا العلم أولاها بذلك. وأولها هنالك إذ لا شرف إلا وهو السبيل إليه ولا خير إلا وهو الدليل عليه ولا منقبة إلا وهو ذروتها وسنامها ولا مفخرة إلا وبه صحتها وتمامها ولا حسنة إلا وهو مفتاحها ولا محمدة إلا ومنه يتقد مصباحها. وهو الوفي إذا خان كل صاحب والثقة إذا لم يوثق بناصح. لولاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلا بتخطيط صورته وهيئة جسمه وبنييه لا ولا وجد إلى اكتساب الفضل طريقاً ولا وجد بشيء من المحاسن خليقاً. ذاك لأنا وإن كنا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلا بالفعل وكان لا يكون فعل إلا بالقدرة فإنا لم نر فعلاً زان فاعله وأوجب الفضل له حتى يكون عن العلم صدره وحتى يتبين ميسمه عليه وأثره. ولم نر قدرة قط أكسبت صاحبها مجداً وأفادته حمداً دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب وقائدها حيث تؤم وتذهب ويكون المصرف لعنانها والمقلب لها في ميدانها فهي إذاً مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره وتقتفي رسمه آلت ولا شيء أحشد للذم على صاحبها منها ولا شين أشين من إعماله لها. فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلاً يخالفك فيه ولا ترى أحداً يدفعه أو ينفيه. فأما المفاضلة بين بعضه وبعض وتقديم فن منه على فن فإنك ترى الناس فيه على آرء مختلفة وأهواء متعادية ترى كلاً منهم لحبه نفسه وإيثاره أن يدفع النقص عنها يقدم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن. ويحاول الزراية على الذي لم يحظ به والطعن على أهله والغض منهم. ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك: فمن مغمور قد استهلكه هواه وبعد في الجور مداه ومن مترجح فيه بين الإنصاف والظلم يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم. فأما من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلا بالعمل وحتى يصدر في كل أمره عن العقل فكا لشيء الممتنع وجوده. ولم يكن ذلك كذلك إلا لشرف العلم وجليل محله وأن محبته مركوزة في الطباع ومركبة في النفوس وأن الغيرة عليه لازمة للجبلة وموضوعة في الفطرة وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه ولا ضعة أوضع من الخلو عنه فلم يعاد إذاً إلا من فرط المحبة ولم يسمح به إلا لشدة الضن. ثم إنك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً وأبسق فرعاً وأحلى جنى وأعذب ورداً وأكرم نتاجاً وأنور سراجاً من علم البيان الذي لولاه لم تر لساناً يحوك الوشي ويصوغ الحلي ويلفظ الدر وينفث السحر ويقري الشهد ويريك بدائع من الزهر ويجنيك الحلو اليانع من الثمر. والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها وتصويره إياها لبقيت كامنة مستورة ولما استبنت لها يد الدهر صورة ولاستمر السرار بأهلتها واستولى الخفاء على جملتها: إلى فوائد لا يحركها الإحصاء ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء. إلا أنك لن ترى على ذلك نوعاً من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه ومني من الحيف بما مني به ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه. فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة وظنون ردية وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش. ترى كثيراً منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين وما يجده للخط والعقد. يقول: إنما هو خبر واستخبار وأمر ونهي. ولكل من ذلك لفظ قد وضع له وجعل دليلاً عليه. فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فارسية وعرف المغزى من كل لفظة ثم ساعده اللسان على النطق بها وعلى تأدية أجراسها وحروفها فهو بين في تلك اللغة كامل الأداة بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها. يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت جاري اللسان لا تعترضه لكنة ولا تقف به حبسة. وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية. فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر فأن لا يلحن فيرفع في موضع النصب أو يخطىء فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب. وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة لا يعلم أن ها هنا دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر ولطائف متقاها العقل وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها ودلوا عليها وكشف لهم عنها ورفعت الحجب بينهم وبينها وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام ووجب أن يفضل بعضه بعضاً وأن يبعد الشأؤ في ذلك وتمتد الغاية ويعلو مرتقى ويعز المطلب. حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يخرج من طوق البشر. ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقاثق وهذه الخواص واللطائف لم تتعرض لها ولم تطلبها. ثم عن لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها وسداً دون أن تصل إليها. وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها وعليه المعول فيها وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها ويبين فاضلها من مفضولها. فجعلت تظهر الزهد في كل واحد من النوعين وتطرح كلاً من الصنفين وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلمهما. أما الشعر فخيل إليها أنه ليس فيه كثير طائل وأن ليس إلا ملحة أو فكاهة أو بكاء منزل أو وصف طلل أو نعت ناقة أو جمل أو إسراف قول في مدح أو هجاء وأنه ليس بشيء تمس الحاجة إليه في صلاح ديني أو دنيا. وأما النحو فظنته ضرباً من التكلف وباباً من التعسف وشيئاً لا يستند إلى أصل ولا يعتمد فيه على عقل. وأن ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب وما يتصل بذلك مما تجده في المبادئ فهو فضل لا يجدي نفعاً ولا تحصل منه على فائدة. وضربوا له المثل بالملح كما عرفت إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين وآراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه لتعوذوا بالله منها ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بها ذاك لأنهم بإيثارهم الجهل بذلك على العلم في معنى الصاد عن سبيل الله والمبتغي إطفاء نور الله تعالى. وذاك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت وبانت وبهرت هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر ومنتهياً إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر. وكان محالاً أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان وتنازعوا فيهما قصب الرهان. ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل وزاد بعض الشعر على بعض كان الصاد عن ذلك صاداً عن أن تعرف حجة الله تعالى. وكان مثله مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرؤوه. ويصنع في الجملة صنيعاً يؤدي إلى أن يقل حفاظه والقائمون به والمقرئون له. ذاك لأنا لم نتعبد بتلاوته وحفظه والقيام بأداء لفظه على النحو الذي أنزل عليه وحراسته من أن يغير ويبذل إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر تعرف في كل زمان ويتوصل إليها في كل أوان ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السلف ويأثرها الثاني عن الأول. فمن حال بيننا وبين ماله كان حفظنا إياه واجتهادنا في أن نؤديه ونرعاه كان كمن رام أن ينسيناه جملة ويذهبه من قلوبنا دفعة. فسواء من منعك الشيء الذي ينتزع منه الشاهد والدليل ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة والاطلاع على تلك الشهادة. ولا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفي به من دائك وتستبقي به حشاشة نفسك وبين من أعدمك العلم بأن فيه شفاء وأن لك فيه استبقاء. فإن قال منهم قائل: إنك قد أغفلت فيما رتبت فإن لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غير ما قلت وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه. ولأن الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب. واستوى الناس قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجاً بالقرآن. قيل له: خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به وطلب الوصول إليه والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها والعلم بها ممكناً لمن التمسه فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي له كان معجزاً قائم فيه أبداً وأن الطريق إلى العلم به موجود والوصول إليه ممكن فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجة الله تعالى وآثرت في الجهل على العلم وعدم الاستبانة على وجودها. وكان التقليد فيها أحب إليك والتعويل على علم غيرك آثر لديك ونح الهوى عنك وراجع عقلك واصدق نفسك يبن لك فحش الغلط فيما رأيت وقبح الخطأ في الذي توهمت. وهل رأيت رأياً أعجز واختياراً أقبح ممن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر وأقوى وأقهر وآثر أن لا يقوى سلطانها على الشرك كل القوة ولا تعلو على الكفر كل العلو. والله المستعان. وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور: أحدها: أن يكون رفضه له وذمه إياه من أجل ما يجده فيه من هزل وسخف وهجاء وسخف وكذب وباطل على الجملة. والثاني: أن يذمه لأنه موزون مقفى ويرى هذا بمجرده عيباً يقتضي الزهد فيه والتنزه عنه. والثالث: أن يتعلق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر ويقول: قد ذموا في التنزيل. وأي كان من هذه رأياً له فهو في ذلك على خطأ ظاهر وغلط فاحش وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر وبالضد مما جاء به الأثر وصح به الخبر. أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسخف وكذب وباطل فينبغي أن يذم الكلام كله وأن يفضل الخرس على النطق والعي على البيان. فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظومه. والذي زعم أنه ذم الشعر من أجله وعاداه بسببه فيه أكثر. لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون والعامة ومن لا يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل. ونحن نعلم أن لو كان منثور الكلام يجمع كما يجمع المنظوم ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثراً في عصر واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظماً في الأزمان الكثيرة ولغمره حتى لا يظهر فيه. ثم إنك لو لم ترو من هذا الضرب شيئاً قط ولم تحفظ إلا الجد المحض ما لا معاب عليك في روايته وفي المحاضرة به وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك غنى ومندوحة ولوجدت طلبتك ونلت مرادك وحصل لك ما نحن ندعوك إليه من الفصاحة. فاختر لنفسك ودع ما تكره إلى ما تحب. هذا وراوي الشعر حاك وليس على الحاكي عيب ولا عليه تبعة إذا هو يقصد بحكايته أن ينصر باطلاً أو يسوء مسلماً وقد حكى الله تعالى كلام الكفار. فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر ومن أجله أريد وله دون تعلم أنك قد زغت عن المنهج وأنك مسيء في هذه العداوة وهذه العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماء لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح ثم لم يعبهم ذلك إذا كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش ولم يريدوه ولم يرووا الشعر من أجله. قالوا: وكان الحسن البصري رحمه الله يتمثل في مواعظه بالأبيات من الشعر وكان من أوجعها عنده من الكامل: وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكره المرزباني في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال: أتي عمر رضوان الله عليه بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن طلحة بن عبيد الله ومحمد بن حاطب فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء المحمدون بالباب يطلبون الكسوة. فقال: ائذن لهم يا غلام. فدعا بحلل فأخذ زيد أجودها وقال: هذه لمحمد بن حاطب وكانت أمه عنده وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه: أيهات أيهات. وتمثل بشعر عمارة بن الوليد من الطويل: أسرك لما صرع القوم نشوة خروجي منها سالماً غير غارم بريئاً كأني قبل لم أك منهم وليس الخداع مرتضى في التنادم ردها! ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل. وقال: أدخل يدك فخذ حلة وأنت لا تراها فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها. وعمارة هذا هو عمارة بن الوليد بن المغيرة خطب امرأة من قومه فقالت: لا أتزوجك أو تترك الشراب. فأبى ثم اشتتد وجده بها فحلف لها ألا يشرب. ثم مر بخمار عنده شرب يشربون فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم. فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه. ومكثوا أياماً ثم خرج فأتى أهله. فلما رأته امرأته ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ثياب الندامى عندهم كالغنائم ولكننا يا أم عمرو نديمنا بمنزلة الريان ليس بعائم أسرك. . . البيتين. فإذاً رب هزل صار أداة في جد وكلام جرى في باطل ثم استعين به على حق كما أنه رب شيء خسيس توصل به إلى شريف بأن ضرب مثلاً فيه وجعل مثالاً له. قال أبو تمام من الكامل: والله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس وعلى العكس فرب كلمة حق أريد بها باطل فاستحق عليها الذم كما عرفت خبر الخارجي مع علي رضوان الله عليه. ورب قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبب به إلى قبيح كالذي حكى الجاحظ قال: رجع طاووس يوماً عن مجلس محمد بن يوسف وهو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أن قول سبحان الله يكون معصية لله حتى كان اليوم سمعت رجلاً أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاماً فقال رجل من أهل المجلس: سبحان الله! كالمستعظم لذلك الكلام ليغضب ابن يوسف. فبهذا ونحوه فاعتبر واجعله حكماً بينك وبين الشعر. وبعد فكيف وضع من الشعر عندك وكسبه المقت منك أنك وجدت فيه الباطل والكذب وبعض ما لا يحسن ولم يرفعه في نفسك ولم يوجب له المحبة من قلبك كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب وأن كان مجنى ثمر العقول والألباب ومجتمع فرق الآداب والذي قيد على الناس المعاني الشريفة وأفادهم الفوائد الجليلة وترسل بين الماضي والغابر ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد ويؤدي ودائع شرف عن الغائب إلى الشاهد حتى ترى به آثار الماضين مخلدة في الباقين وعقول الأولين مرددة في الآخرين وترى لكل من رام الآدب وابتغى الشرف وطلب محاسن القول والفعل مناراً مرفوعاً وعلماً منصوباً وهادياً مرشداً ومعلماً مسدداً. وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر والزاهد في اكتساب المحامد داعياً ومحرضاً وباعثاً ومحضضاً ومذكراً ومعرفاً وواعظاً ومثقفاً. فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا الرأي منك وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه. ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به. ولكنك أبيت إلا ظناً سبق إليك وإلا بادئ رأي عن لك فأقفلت عليه قلبك وسددت عما سواه سمعك. فعي الناصح بك وعسر على الصديق والخليط تنبيهك. نعم وكيف رويت: الأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً فيريه خير له من أن يمتلىء شعراً. ولهجت له وتركت قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من شعر لحكماً وإن من البيان لسحراً ". وكيف نسيت أمره صلى الله عليه وسلم بقول الشعر ووعده عليه الجنة وقوله لحسان " قل وروح القدس معك وسماعه له واستنشاده إياه وعمله صلى الله عليه وسلم! به واستحسانه له وارتياحه عند سماعه أما أمره به فمن المعلوم ضرورة وكذلك سماعه إياه فقد كان حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه ويسمع منهم ويصغي إليهم ويأمرهم بالرد على المشركين فيقولون في ذلك ويعرضون عليه. وكان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب " ما نسي ربك قال: وماهو يا رسول الله قال: " أنشده يا أبا بكر ". فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه من الكامل: زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب وأما استنشاده إياه فكثير من ذلك الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسقي قول أبي طالب من الكامل: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل . . . الأبيات. وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق عن عبد الله قال: لما نظررسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتلى يوم بدر مصرعين قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: " لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل " قال: وذلك لقول أبي طالب: كذبتم وبيت الله إن جد ما أرى لتلتبسن أسيافنا بالأنامل وينهض قوم في الدروع إليهم نهوض الروايا في طريق حلاحل ومن المحفوظ في ذلك حديث محمد بن مسلمة الأنصاري جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق قال: فتذاكرنا الشكر والمعروف. قال: فقال محمد: كنا يوماً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت: " أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإن الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته ": فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة من السريع: علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا! فقال: يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا حسان أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى. وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني وفي خبر آخر فشعث مني وإنه سأل هذا عني فأحسن القول " فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. وروي من وجه آخر أن حسان قال: يا رسول الله من نالتك يده وجب علينا شكره. ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: " أبياتك " فأقول من الكامل: ارفع ضعيفك لايحر بك ضعفه يوماً فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى قالت: فيقول عليه السلام: " يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده: صنع إليك عبدي معروفاً فهل شكرته عليه فيقول: يا رب علمت أنه منك فشكرتك عليه قال: فيقول الله عز وجل: لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريته على يده ". وأما علمه عليه السلام بالشعر فكما روي أن سودة أنشدت: عدي وتيم تبتغي من تحالف فظنت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عرضت بهما وجرى بينهن كلام في هذ المعنى. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليهن وقال: " يا ويلكن! ليس فى عديكن ولا تيمكن قيل هذا. وإنما قيل في عدي تميم وتيم تميم ". وتمام هذا الشعر وهو لقيس بن معدان الكلبي من بني يربوع من الطويل: فحالف ولا والله تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف ألا من رأى العبدين أو ذكرا له عدي وتيم تبتغي من تحالف وروى الزبير بن بكار قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقة مكة من الكامل: يا أيها الجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد الدار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر أهكذا قال الشاعر " قال: لا يا رسول الله ولكنه قال من الكامل: يا أيها الرجل المحول رحله هلا سألت عن آل عبد مناف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هكذا كنا نسمعها ". وأما ارتياحه صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه له فقد جاء فيه الخبر من وجوه. من ذلك حديث النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي من الطويل: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أين المظهر يا أبا ليلى " فقلت: الجنة يا رسول الله. قال: " أجل إن شاء الله ". ثم قال: أنشدني. فأنشدته من قولي من الطويل: ولاخير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال صلى الله عليه وسلم " أجدت لا يفضض الله فاك. قال الرازي: فنظرت إليه فكأن فاه البرد المنهل ما سقطت له سن ولا انفلت ترف غروبه. ومن ذلك حديث كعب بن زهير: روي أن كعباً وأخاه بجيراً خرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العزاف فقال كعب لبجير: إلق هذا الرجل وأنا مقيم ها هنا فأنظر ما يقول. وقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم. وبلغ ذلك كعباً فقال في ذلك شعراً. فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه. فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل منه رسول الله وأسقط ما كان قبل ذلك. قال: فقدم كعب وأنشد النبي قصيدته المعروفة من البسيط: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مغلول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول سح السقاة عليها ماء محنية من ماء أبطح أضحى وهو مشمول ويل امها خلة لو أنها صدقت موعودها أو لو ان النصح مقبول حتى أتى على آخرها. فلما بلغ مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول في فتية من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا: زولوا زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل لايقع الطعن إلا في نحورهم وما بهم عن حياض الموت تهليل شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحلق أن اسمعوا. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم يتحلقون حلقة دون حلقة فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء. والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة والأثر به مستفيض. وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى حتى كأن الوزن عيب وحتى كأن الكلام إذا نظم نظم الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله فقد أبعد وقال قولاً لا يعرف له معنى وخالف العلماء في قولهم: إنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً أيضاً. فإن زعم أنه إنما كره الوزن لأنه سبب لأن يغنى في الشعر ويتلفى به فإنا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل والقول الفصل والمنطق الحسن والكلام البين وإلى حسن التمثيل والاستعارة وإلى التلويح والإشارة وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرفه وإلى الضئيل فتفخمه وإلى النازل فترفعه وإلى الخامل فتنوه به وإلى العاطل فتحليه وإلى المشكل فتجفيه. فلا متعلق له علينا بما ذكر ولا ضرر علينا بما أنكر فليقل في الوزن ما شاء وليضعه حيث أراد فليس يعنينا أمره ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه وهذا هو الجواب لمتعلق إن تعلق بقوله تعالى: " وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر ومن حفظه وروايته. وذاك أنا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولاً فصلاً وكلاماً جزلاً ومنطقاً حسناً وبياناً بيناً. كيف وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة وحماه الفصاحة والبراعة وجعله لايبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة وشرف اللفظ وهذا جهل عظيم وخلاف لما عرفه العلماء وأجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب. وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من أجلها ونحذو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية محالاً والتعلق بها خطلاً من الرأي وانحلالاً. فإن قال: إذا قال الله تعالى: " وهذه الكراهة وإن كانت لا تتوجه إليه من حيث هو كلام ومن حيث إنه بليغ بين وفصيح حسن ونحو ذلك فإنها تتوجه إلى أمر لا بد لك من التلبس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر وذاك أنه لا سبيل لك إلى أن تميز كونه كلاماً عن كونه شعراً. حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام ولم تلتبس به من حيث هو شعر. هذا محال وإذا كان لا بد لك من ملابسة موضع الكراهة فقد لزم العيب برواية الشعر وإعمال اللسان فيه قيل له: هذا منك كلام لا يتحصل وذلك أنه لو كان الكلام إذا وزن حط ذلك من قدره وأزرى به وجلب على المفرغ له في ذلك القالب إثماً وكسبه ذماً كان من حق العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو من يريده لمكان الوزن خصوصاً دون من يريده لأمر خارج عنه ويطلبه لشيء سواه. فأما قولك: إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره فإني إذاً لم أقصده من أجل ذلك المكروه ولم أرده له وأردته لأعرف به مكان بلاغة وأجعله مثالاً في براعة. أو أحتج في تفسير كتاب وسنة وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن فأرى موضع الإعجاز وأقف على الجهة التي منها كان وأتبين الفصل والفرقان فحق هذا التلبس أن لا يعتد علي وأن لا أؤاخذ به إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عمد إلى أن تواقع المكروه وقصد إليه. وقد تتبع العلماء الشعوذة والسحر وعنوا بالتوقف على حيل المموهين ليعرفوا فرق ما بين المعجزة والحيلة فكان ذلك منهم من أعظم البر إذ كان الغرض كريماً والقصد شريفاً. هذا وإذا نحن رجعنا إلى ما قدمناه من الأخبار وما صح من الآثار وجدنا الأمر على خلاف ما ظن هذا السائل ورأينا السبيل في منع النبي صلى الله عليه وسلم الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام الموزون غير ما ذهبوا إليه. وذاك لو كان منع تنزيه وكراهة لكان ينبغي أن يكره سماع الكلام موزوناً وأن ينزه سمعه عنه كما نزه لسانه ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر به ولا يحث عليه. وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعراً ولا يؤيد فيه بروح القدس. وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة بل سبيل الوزن في منعه عليه السلام إياه سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر والدلالة أقوى وأظهر ولتكون أكعم وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه والمنع من حفظه وروايته والعلم به فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرىء القيس وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن وفي غريبه وغريب الحديث. وكذلك يلزمه أن يدفع ما تقدم ذكره من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له. هذا ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله وأن يحمل ذنب الشاعر على الشعر لكان ينبغي أن يخص ولا يعم وأن يستثنى فقد قال الله عز وجل: " وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له وإصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعهم في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدم وأشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه. ذاك لأنهم لا يجدون بداً من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه إذ كان قد علم أن لألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانة حتى يعرض عليه. والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه. ولا ينكر ذلك إلا من نكر حسه وإلا من غالط في الحقائق نفسه وإذا كان الأمر كذلك فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه ولم ير أن يستسقيه من مصبه ويأخذه من معدنه ورضي لنفسه بالنقص والكمال لها معرض وآثر الغبينة وهو يجد إلى الربح سبيلاً فإن قالوا: إنا لم نأب صحة هذا العلم ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى وإنما أنكرنا أشياء كثرتموه بها وفضول قول تكلفتموها ومسائل عويصة تجشمتم القكر فيها. ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين وتعايوا بها الحاضرين قيل لهم: خبرونا عما زعمتم أنه فضول قول وعويص لا يعود بطائل ما هو فإن بدأوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس كقولهم: كيف تبني من كذا كذا وكقولهم: ما وزن كذا وتتبعهم في ذلك الألفاظ الوحشية كقولهم: ما وزن عزويت وما وزن أرونان وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سميت رجلاً بكذا كيف يكون الحكم وأشباه ذلك. وقالوا: أتشكون أن ذلك لا يجدي إلا كد الفكر وإضاعة الوقت قلنا لهم: أما هذ الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به وليس يهمنا أمره. فقولوا فيه ما شئتم وضعوه حيث أردتم. فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة وعلى وجه الحكمة في الأوضاع وتقرير المقاييس التي اطردت عليها وذكر العلل التي اقتضت أن تجري على ما أجريت عليه كالقول في المعتل وفيما يلحق الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغير بالإبدال والحذف والإسكان. أو ككلامنا مثلاً على التثنية وجمع السلامة: لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد. ولم تبع النصب فيهما الجر وفي النون أنه عوض عن الحركة والتنوين في حال وعن الحركة وحدها في حال والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف ولم كان منع الصرف وبيان العلة فيه. والقول على الأسباب التسعة وأنها كلها ثوان لأصول. وأنه إذا حصل منها اثنان في العلم أو تكرر سبب صار بذلك ثانياً من جهتين. وإذا صار كذلك أشبه الفعل لأن الفعل ثان للاسم والاسم المقدم والأول وكل ما جرى هذا المجرى. قلنا: إنا نسكت عنكم في هذا الضرب أيضاً ونعذركم فيه ونسامحكم على علم منا بأن قد أسأتم الاختيار ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظ لكم ومنعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة. فدعوا ذلك وانظروا في الذي اعترفتم بصحته وبالحاجة إليه هل حصلتموه على وجهه وهل أحطتم بحقائقه وهل وفيتم كل باب منه حقه وأحكمتموه إحكاماً يؤمنكم الخطأ فيه إذا أنتم خضتم في التفسير وتعاطيتم علم التأويل ووازنتم بين بعض الأقوال وبعض وأردتم أن تعرفوا الصحيح من السقيم. وعدتم في ذلك وبدأتم وزدتم ونقصتم وهل رأيتم إذ قد عرفتم صورة المبتدأ والخبر وأن إعرابهما الرفع أن تجاوزوا ذلك إلى أن تنظروا في أقسام خبره فتعلموا أنه يكون مفرداً وجملة. وأن المفرد ينقسم إلى ما يحتمل ضميراً له وإلى ما لا يحتمل الضمير. وأن الجملة على أربعة أضرب وأنه لا بد لكل جملة وقعت خبراً لمبتدأ من أن يكون فيها ذكر يعود إلى المبتدأ أن هذا الذكر ربما حذف لفظاً وأريد معنى. وأن ذلك لا يكون حتى يكون في الحال دليل عليه إلى سائر ما يتصل بباب الابتداء من المسائل اللطيفة والفوائد الجليلة التي لا بد منها وإذا نظرتم في الصفة مثلاً فعرفتم أنها تتبع الموصوف وأن مثالها قولك: جاءني رجل ظريف ومررت بزيد الظريف هل ظننتم أن وراء ذلك علماً وأن هاهنا صفة تخصص وصفة توضح وتبين وأن فائدة التخصيص غير فائدة التوضيح كما أن فائدة الشياع غير فائدة الإبهام. وأن من الصفة صفة لا يكون فيها تخصيص ولا توضيح ولكن يؤتى بها مؤكدة كقولهم: أمس الدابر. وكقوله تعالى: " وصفة يراد بها المدح والثناء كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جده وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر وبين كل واحد منها وبين الحال وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافتها لثبوت المعنى للشيء ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت. . وهكذا ينبغي أن تعرض عليهم الأبواب كلها واحداً واحداً ويسألوا عنها باباً باباً. ثم يقال: ليس إلا أحد أمرين إما أن تقتحموا التي لا يرضاها العاقل فتنكروا أن يكون بكم حاجة في كتاب الله تعالى وفي خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي معرفة الكلام جملة إلى شيء من ذلك وتزعموا أنكم إذا عرفتم مثلاً أن الفاعل رفع لم يبق عليكم في باب الفاعل شيء تحتاجون إلى معرفته وإذا نظرتم إلى قولنا: " زيد منطلق " لم تحتاجوا من بعده إلى شيء تعلمونه في الابتداء والخبر. وحتى تزعموا مثلاً أنكم لا تحتاجون في أن تعرفوا وجه الرفع في " الصابئون " في سورة المائدة إلى ما قاله العلماء فيه وإلى استشهادهم بقول الشاعر من الوافر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق وحتى كأن المشكل على الجميع غير مشكل عندكم. وحتى كأنكم قد أوتيتم أن تستنبطوا من المسألة الواحدة من كل باب مسائله كلها فتخرجوا إلى فن من التجاهل لا يبقى معه كلام. وإما أن تعلموا أنكم قد أخطأتم حين أصغرتم أمر هذا العلم وظننتم ما ظننتم فيه فترجعوا إلى الحق وتسلموا الفضل لأهله وتدعوا الذي يزري بكم ويفتح باب العيب عليكم ويطيل لسان القادح فيكم. وبالله التوفيق. هذا ولو أن هؤلاء القوم إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة وإذ زعموا أن قدر المفتقر إليه القليل منه ولم يخوضوا في التفسير ولم يتعاطوا التأويل لكان البلاء واحداً ولكانوا إذ لم يبنوا لم يهدموا وإذ لم يصلحوا لم يكونوا سبباً للفساد ولكنهم لم يفعلوا. فجلبوا من الداء ما أعيى الطبيب وحير اللبيب وانتهى التخليط بما أتوه فيه إلى حد يئس من تلافيه فلم يبق للعارف الذي يكره الشغب إلا التعحب والسكوت. وما الآفة العظمى إلا واحدة وهي أن يجيء من الإنسان أن يجري لفظه ويمشي له أن يكثر في غير تحصيل وأن يحسن البناء على غير أساس. وأن يقول الشيء لم يقتله علماً. ونسأل الله الهداية ونرغب إليه في العصمة. ثم إنا وإن كنا في زمان هو على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها وتحويل الأشياء عن حالاتها ونقل النفوس عن طباعها وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفاً والغيظ بحتاً وإلا ما يدهش عقولهم ويسلبهم معقولهم حتى صار أعجز الناس رأياً عند الجميع من كانت له همة في أن يستفيد علماً أو يزداد فهماً أو يكتسب فضلاً أو يجعل له ذلك بحال شغلاً فإن الإلف من طباع الكريم إذا كان من حق الصديق عليك ولا سيما إذا تقادمت صحبته وصحت صداقته أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام وتضجرك النوائب وتحرجك محن الزمان فتتناساه جملة وتطويه طياً. فالعلم الذي هو صديق لا يحول عن العهد ولا يدغل في الود وصاحب لا يصح عليه النكث والغدر ولا يظن به الخيانة والمكر أولى منه بذلك وأجدر وحقه عليك أكبر. ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور قرارها وتوضع الأشياء مواضعها والنزاع إلى بيان ما يشكل وحل ما ينعقد والكشف عما يخفى وتلخيص الصفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة واستظهاراً على الشبهة واستبانة للدليل وتبييناً للسبيل شيء في سوس العقل وفي طباع النفس إذا كانت نفساً. ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان البراعة وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء. وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج. وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه وتوضع لك القاعدة لتبنى عليها ووجدت المعول على أن ها هنا نظماً وترتيباً وتأليفاً وتركيباً وصياغة وتصويراً ونسجاً وتحبيراً وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها. وأنه كما يفضل هناك النظم النظم والتأليف التأليف والنسج النسج والصياغة الصياغة. ثم يعظم الفضل وتكثر المزية حتى يفوق الشي نظيره والمجانس له درجات كثيرة. وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد. كذلك يفضل بعض الكلام بعضاً ويتقدم منه الشيء الشيء ثم يزداد فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة ويعلو مرقباً بعد مرقب. وتستأنف له غاية بعد غاية حتى وهذه جملة قد يرى في أول الأمر وبادئ الظن أنها تكفي وتغني. حتى إذا نظرنا فيها وعدنا وبدأنا وجدنا الأمر على خلاف ما حسبناه وصادفنا الحال على غير ما توهمناه وعلمنا أنهم لئن أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى وإن لم يغرقوا في النزع لقد أبعدوا علم ذاك في المرمى وذاك لأنه يقال لنا: ما زدتم على أن قستم قياساً فقلتم: نظم ونظم وترتيب وترتيب ونسج ونسج. ثم بنيتم عليه أنه ينبغي أن تظهر المزية في هذه المعاني هاهنا حسب ظهورها هناك. وأن يعظم الأمر في ذلك كما عظم ثم وهذا صحيح كما قلتم ولكن بقي أن تعلمونا مكان المزية في الكلام وتصفوها لنا وتذكروها ذكراً كما ينص الشيء ويعين ويكشف عن وجهه ويبين. ولا يكفي أن تقولوا: إنه خصوصية في كيفية النظم وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبينوها وتذكروا لها أمثلة وتقولوا: مثل كيت وكيت. كما يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقش ما تعلم به وجه دقة الصنعة أو يعلمه بين يديك حتى ترى عياناً كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء وماذا يذهب منها طولاً وماذا يذهب منها عرضاً وبم يبدأ وبم سي وبم يثني. وتبصر من الحساب الدقيق ومن عجيب تصرف اليد ما تعلم منه مكان الحذق وموضع الأستاذية. ولو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة: إنها خصوصية في نظم الكلم وضم بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة أو على وجوه تظهر بها الفائدة. أو ما أشبه ذلك من القول المجمل كافياً في معرفتها ومغنياً في العلم بها لكفى مثله في معرفة الصناعات كلها. فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التصاوير أن تعلم أنه ترتيب للغزل على وجه مخصوص وضم لطاقات الأبريسم بعضها إلى بعض على طرق شتى وذلك ما لا يقوله عاقل. وجملة الأمر أنك لن تعلم في شيء من الصناعات علماً تمر فيه وتحلي حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب ويفصل بين الإساءة والإحسان بل حتى تفاضل بين الإحسان والإحسان وتعرف طبقات المحسنين. وإذا كان هذا هكذا علمت أنه لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياساً وأن تصفها وصفاً مجملاً وتقول فيها قولاً مرسلاً. بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة وتسميها شيئاً شيئاً. وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الأبريسم الذي في الديباج وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع وكل آجرة من الآجر الذي في البناء البديع. وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر وطلبتها هذا الطلب احتجت إلى صبر على التأمل ومتى جشمت ذلك وأبيت إلا أن تكون هنالك فقد أممت إلى غرض كريم وتعرضت لأمر جسيم وآثرت التي هي أتم لدينك وفضلك وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك. وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه لها وأخلق بأن يزداد نورها سطوعاً وكوكبها طلوعاً وأن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشك وأبعد من الريب وأصح لليقين وأحرى بأن يبلغك قاصية التبيين. واعلم أنه لا سبيل إلى أن تعرف صحة هذه الجملة حتى يبلغ القول غايته وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك وتصويره في نفسك وتقريره عندك إلا أن هاهنا نكتة إن أنت تأملتها تأمل المتثبت ونظرت فيها نظر المتأني رجوت أن يحسن ظنك وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك. وهي أنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سمعوا القرآن وحين تحدوا إلى معارضته سمعوا كلاماً لم يسمعوا قط مثله وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريباً منه لكان محالاً أن يدعم معارضته وقد تحدوا إليه وقرعوا فيه وطولبوا به وأن يتعرضوا لشبا الأسنة ويقتحموا موارد الموت فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم فخبرونا عنهم عما ذا عجزوا أعن معان في دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول أم عن ألفاظ مثل ألفاظه فإن قلتم عن الألفاظ فماذا أعجزهم من اللفظ أم ما بهرهم منه فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها ومجاري ألفاظها ومواقعها وفي مضرب كل مثل ومساق كل خبر وصورة كل عظة وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب ومع كل حجة وبرهان وصفة وتبيان. وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة وعشراً عشراً وآية آية فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها و يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق. بل وجدوا اتساقاً بهر العقول وأعجز الجمهور ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حك بيافوخه السماء موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول وخلدت القروم فلم تملك أن تصول. نعم فإذا كان هو الذي يذكر في جواب السائل فبنا أن ننظر: أي أشبه بالفتى في عقله ودينه وأزيد له في علمه ويقينه أأن يقلد في ذلك ويحفظ متن الدليل وظاهر لفظه ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص ما هي ومن أين كثرت الكثرة العظيمة واتسعت لاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر وكيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة وكلم معدودة معلومة بأن يؤتى ببعضها في إثر بعض لطائف لا يحصرها العدد ولا ينتهي بها الأمد أم أن يبحث عن ذلك كله ويستقصي النظر في جميعه ويتتبعه شيئاً فشيئاً يستقصيه باباً فباباً حتى يعرف كلا منه بشاهده ودليله ويعلمه بتفسيره وتأويله ويوثق بتصوره وتمثيله ولا يكون كمن قيل فيه من الطويل: يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ولو قيل: هاتوا حققوا لم يحققوا قد قطعت عذر المتهاون ودللت على ما أضاع من حظه وهديته لرشده وصح أن لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور والوقوف عليها والإحاطة بها وأن الجهة التي منها يقف والسبب الذي به يعرف استقراء كلام العرب وتتبع أشعارهم والنظر فيها. وإذ قد ثبت ذلك فينبغي لنا أن نبتدىء في بيان ما أردنا بيانه ونأخذ في شرحه والكشف عنه. وجملة ما أردت أن أبينه لك أنه لا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة. وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل. وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة ومعان شريفة. ورأيت له أثراً في الدين عظيماً وفائدة جسيمة ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلق بالتأويل. وإنه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك وتدافع عن مغزاك ويربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تهتدي إليه وتدل بعرفان ثم لا تستطيع أن تحل عليه. وأن تكون عالماً في ظاهر مقلد ومستبيناً في صورة شاك وأن يسألك السائل عن حجة يلقى بها الخصم في آية من كتاب الله تعالى أو غير ذلك فلا ينصرف عنك بمقنع وأن يكون غاية ما لصاحبك منك أن تحيله على نفسه وتقول: قد نظرت فرأيت فضلاً ومزية وصادفت لذلك أريحية. فانظر لتعرف كما عرفت وارجع نفسك واسبر وذق لتجد مثل الذي وجدت. فإن عرف فذاك وإلا فبينكما التناكر تنسبه إلى سوء التأمل وينسبك إلى فساد في التخيل. وإنه على الجملة بحيث ينتقي لك من علم الإعراب خالصه ولبه ويأخذ لك من أناسي العيون وحبات القلوب وما لا يدفع الفضل فيه دافع ولا ينكر رجحانه في موازين العقول منكر. وليس يتأتى لي أن أعلمك من أول الأمر في ذلك آخره وأن أسمي لك الفصول التي في نيتي أن أحررها بمشيئة الله عز وجل حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك. فاعمل على أن هاهنا فصولاً لا يجيء بعضها في إثر بعض وهذا أولها:
|